فصل: باب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الصَّلاةِ فِي النِّعَالِ

- فيه‏:‏ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لم يكن فى النعلين نجاسة فلا بأس بالصلاة فيهما، فإن كان فيهما نجاسة فليمسحهما وليصلى فيهما‏.‏

وقد روى هذا المعنى عن النبى، روى حماد بن سلمة قال‏:‏ حدثنا أبو نعامة السعدى، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدرى، قال‏:‏ ‏(‏بينما رسول الله يصلى إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره، فلما رأى الناس ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلاته، قال‏:‏ ‏(‏ما حملكم على إلقائكم نعالكم‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ رأيناك ألقيت نعليك فألقينا، قال‏:‏ ‏(‏إن جبريل أخبرنى أن فيهما أذى، أو قذرًا، فألقيتهما فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن كان فيهما أذى أو قذرًا فليمسحه وليصل فيهما‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى تطهير النعال والخفين من النجاسات، فقالت طائفة‏:‏ إذا وطئ القذر الرطب يجزئه أن يمسحه بالتراب ويصلى فيه هذا قول الأوزاعى، وأبى ثور‏.‏

وقال أحمد فى السيف يصيبه الدم، فيمسحه وهو حار‏:‏ يصلى فيه إذا لم يبق فيه أثر، وكان عروة، والنخعى يمسحان الروث من نعالهما ويصليان فيها‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ رأيت يحيى بن وثاب، وعبد الله بن عياش وغيرهما يخوضون الماء قد خالطه السرقين والبول، فإذا انتهوا إلى باب المسجد لم يزيدوا على أن ينفضوا أقدامهم ثم يدخلون فى الصلاة‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجزئه أن يطهر القذر الرطب إلا بالماء، وإن كان يابسًا أجزأه حَكُّهُ، هذا قول مالك وأبى حنيفة، وقال محمد‏:‏ لا يجزئه فى اليابس أيضًا حتى يغسل موضعه من الخف والنعل وغيره إلا المنى خاصة، وقال الشافعى‏:‏ لا يطهر النجاسات كلها إلا الماء فى النعل والخف وغيره‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا بحديث سعيد المقبرى، عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏سألت رسول الله عن الرجل يطأ بنعليه الأذى قال‏:‏ ‏(‏التراب له طهور‏)‏، وحديث سعيد بن أبى سعيد‏:‏ أن امرأة سألت عائشة عن المرأة تجرُّ ذيلها فى المكان القذر، قالت‏:‏ ‏(‏يطهره ما بعده‏)‏‏.‏

وقال ابن أبى زيد‏:‏ قال أبو بكر بن اللباد‏:‏ قال بعض أصحابنا‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏يطهره ما بعده‏)‏، أنها تسحب ذيلها على أرض ندية نجسة، وقد رخص لها أن ترخيه بعد ذلك على أرض طاهرة فذلك له طهور، قال مالك‏:‏ معناه عندنا فى القشب اليابس الذى لا يتعلق منه شىء، وقد سمح فى الرطب من أرواث الدواب وأبوالها لما يلحق الناس من المضرة فى غسله فى كل وقت، إذ لا تخلو الطرق من أرواث الدواب وأبوالها‏.‏

وقال الداودى‏:‏ قال بعض أصحاب مالك بظاهر الحديث، ورأى ذلك فى الرطب واليابس، وذكر غير الداودى أنه قول ابن وهب قال‏:‏ وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه؛ لأنه يقول‏:‏ إن النجاسات يجوز إزالتها بكل ما أذهب عينها، والماء وغيره فى ذلك سواء، واحتج من قال‏:‏ إنه فى القذر الرطب‏:‏ بأن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يطهره ما بعده‏)‏، يدل أنها جرته على رطب، وإلا فنحن عالمون أنها إذا جرته على يابس لم يعلق به شىء من النجس، فكيف يخبر أنه قد طهر ما لم يحل فيه نجاسة‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي الْخِفَافِ

- فيه‏:‏ جَرِيرَ‏:‏ ‏(‏أنه بَالَ، وتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى، فَسُئِلَ، فَقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ هَذَا، وكَانَ يُعْجِبُهُمْ؛ لأنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حديث الْمُغِيرَةِ‏:‏ ‏(‏أن نَبِيَّ الله مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثم صَلَّى‏)‏‏.‏

وهذا الباب كالذى قبله إذا كانت الخفاف طاهرة من الأقذار والأذى، فحينئذ يجوز المسح عليها والصلاة فيها، وإن كان فيها قذر فحكمها حكم النعلين المذكورة فى الباب قبل هذا، هذا مذهب العلماء فى ذلك‏.‏

وأما إعجابهم بأن جريرًا كان من آخر من أسلم؛ فلأن بعض الناس يزعم أن المسح على الخفين منسوخ بالغسل فى آية الوضوء التى فى المائدة، وقد روى فى حديث جرير أنه كان يعجبهم؛ لأنه أسلم بعد نزول المائدة، فاستعمال جرير للمسح على الخفين بعد نزول المائدة يدل على أن المسح غير منسوخ بل هو سنة، وقد ذكرت هذا المعنى فى كتاب الوضوء فى باب‏:‏ المسح على الخفين‏.‏

فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ قال نبى الله‏:‏ ‏(‏مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ‏)‏‏.‏

- وقال‏:‏ ‏(‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ‏)‏‏.‏

هذا يدل على تعظيم شأن القبلة وهى من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا فلا صلاة له، ومن لا صلاة له فلا دين له‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ ما وجه هذا الحديث وقد علمت أن أجناسًا من أهل الكفر أمرنا بقتالهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله‏.‏

قيل‏:‏ قد جاء فى بعض طرق هذا الحديث‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله‏)‏، وحديث هذا الباب إنما قاله عليه السلام، فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وكانوا إذا قيل لهم‏:‏ لا إله إلا الله يستكبرون، فدعاهم النبى صلى الله عليه وسلم إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلاً فى صبغة الإسلام، وقاتل آخرين من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد فقال‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله‏)‏، وذلك أن كفرهم كان جحدًا بالنبوة فمن أقر بما عليه قوتل، فقد حرم دمه وماله إلا بظهور نقض شرائط ما أقرَّ به بعد الإقرار بجملته، وذلك هو الحق الذى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إلا بحقها‏)‏، ولو أن أهل الأوثان وَحَّدَ بعضهم وشهد أن لا إله إلا الله، وحكم له بحكم الإسلام فى منع نفسه وماله، ثم عرضت عليه شرائع الإسلام بعد ذلك، فامتنع من الإقرار برسول الله كان لا شك بالله كافرًا، وعاد حربيًا، وكذلك الذى أقر بنبوة محمد لو أنكر شيئًا من الفرائض حلّ دمه وعاد حربيًا كافرًا‏.‏

باب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ وَالْمَشْرِقِ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ

لِقَوْلِ الرَّسُول‏:‏ ‏(‏لا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أبو أيوب الأنصارى أن نبى الله قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو أَيُّوبَ‏:‏ فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، يعنى‏:‏ وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام فى الأمر بالانحراف عند الغائط؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، وهؤلاء أمروا بالتشريق والتغريب واستعمال هذا الحديث‏.‏

وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المارِّ عليها من مشرقها إلى مغربها، فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة وإذا غربوا استقبلوا، وكذلك من كان موازيًا لمغرب مكة إن غرب استدبر القبلة وإن شرق استقبلها، وإنما ينحرف إلى الجنوب أو الشمال، فهذا هو تغريبه وتشريقه، ولم يذكر البخارى مغرب الأرض كلها؛ إذ العلة فيها مشتركة مع المشرق فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب؛ لأن المشرق أكبر الأرض المعمورة وبلاد الإسلام فى جهة مغرب الشمس قليل‏.‏

وتقدير الترجمة‏:‏ باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب، ليس فى المشرق ولا فى المغرب يعنى أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا مواجهين القبلة ولا مستدبرين لها‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ‏(‏كيف يكون قوله‏:‏ ليس فى المشرق والمغرب‏)‏، بمعنى التشريق والتغريب‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ هذا صحيح فى لغة العرب ومعروف عندهم‏.‏

أنشد ثعلب فى المجالس‏:‏

أبعد مغربهم نجدًا وساحتها أرجو من الدمع تغييضًا وإقلاعًا ***

قال ثعلب‏:‏ معناه أبعد تغريبهم‏.‏

وحمل أبو أيوب الحديث على العموم فى الصحارى وغيرها، وخالفه غيره لحديث ابن عمر، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته‏.‏

باب قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة 125‏]‏

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ إلى الْبَيْتِ فطاف به سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أن بلالاً قال‏:‏ ‏(‏صَلَّى النَّبِيُّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ، إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏لَمَّا دَخَلَ الرسول الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ، حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ‏:‏ هَذِهِ الْقِبْلَةُ‏)‏‏.‏

اختلف أهل التأويل فى قوله‏:‏ ‏(‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏، فقال ابن عباس‏:‏ الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد‏:‏ الحرم كله مقام إبراهيم، وقال عطاء‏:‏ مقام إبراهيم‏:‏ عرفة والمزدلفة، والجدار، والجمار فى أخرى، وقال السُدى‏:‏ هو الحجر بعينه الذى وقف عليه إبراهيم‏.‏

واختلفوا فى قوله‏:‏ ‏(‏مصلى ‏(‏، فقال مجاهد‏:‏ مَدْعَى، كأنه أخذه من صليت بمعنى دعوت، وقال الحسن‏:‏ قبلة، وقال قتادة والسدى‏:‏ أمروا أن يصلوا عنده‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولما اختلفوا فى تأويل هذه الآية، واختلفت الآثار فى صلاته عليه السلام، فروى ابن عمر أنه عليه السلام، صلى عند المقام ركعتين، وقال بلال‏:‏ إنه صلى فى الكعبة ثم خرج فصلى فى وجه الكعبة ركعتين، وقال ابن عباس‏:‏ إنه صلى ركعتين فى قبل الكعبة، وقال‏:‏ هذه القبلة، أردنا أن نعلم الصحيح من ذلك، فوجدنا ابن عباس قال‏:‏ الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد‏:‏ الحرم كله، ووجدنا من صلى إلى الكعبة من الجهات الثلاث التى لا تقابل مقام إبراهيم، فقج أدى فرضه علمنا أن الفرض فى القبلة إنما هو البيت لا مقام إبراهيم، ويشهد لذلك قول ابن عباس أنه صلى حين صلى خارج البيت قبل الكعبة، وقال‏:‏ هذه القبلة، لم يستقبل المقام، وكذلك حين صلى فى البيت على ما رواه بلال لم يستقبل المقام، وإنما يكون المقام قبلة إذا جعله المصلِّى بينه وبين القبلة على ما جاء فى حديث ابن عمر، وأجمع العلماء أن الكعبة كلها قبلة من أى ناحية استقبلت‏.‏

وأما اختلاف الآثار أنه صلى فى البيت وأنه لم يصل، فالآثار أنه صلى أكثر، ولو تساوت فى الكثرة لكان الأخذ بالمثبت أولى من النافى على ما يقوله العلماء فى الشهادات‏.‏

فقد روى أنه عليه السلام صلى فى البيت غير بلال جماعة منهم‏:‏ أسامة بن زيد، وعمر ابن الخطاب، وجابر، وشيبة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، من طرقٍ حسان ذكرها الطحاوى كلها فى شرح معانى الآثار‏.‏

وقال المهلب‏:‏ ويحتمل أن يكون عليه السلام دخل البيت مرتين، فالمرة الواحدة صلى فيه، والمرة الأخرى دعا ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار فى ذلك‏.‏

وقد اختلف العلماء فى الصلاة فى البيت وعلى ظهر الكعبة، فقال أبو حنيفة، والشافعى‏:‏ يصلى فيه الفريضة والنافلة، وقال مالك‏:‏ لا يصلى فيه الفريضة ولا ركعتى الطواف الواجب، فإن صلى أعاد فى الوقت، ويجوز أن يصلى فيه النافلة، وقال الطبرى‏:‏ لا تصلى فيه فريضة ولا نافلة، وحجة مالك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144، 150‏]‏، وهى قبالته، ومن صلى فى جوف الكعبة لم يقابل شطرها؛ لأنه يحصل مستقبلاً للبعض مستدبرًا للبعض ولا تحصل كلها قبالته إلا أن يكون خارجًا منها‏.‏

وحجة أبى حنيفة، والشافعى أنه من صلى خارجًا منها، فإنه يستقبل بعضها، وصلاته جائزة بإجماع؛ لأن ما عن يمين ما استقبل من البيت وما عن يساره ليس هو مستقبله، فلم يتعبد باستقبال كل جهاته، فكان النظر على ذلك أن كل من صلى فيه، فقد استقبل إحدى جهاته وترك غيرها، وما ترك من ذلك فهو فى حكم ما كان عن يمينه وشماله إذا كان خارجًا منه، فثبت قول من أجاز الصلاة فيها، هذا قول أبى جعفر الطحاوى‏.‏

باب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَان

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ البراء‏:‏ ‏(‏صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏البقرة 144‏]‏، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ- وَهُمُ الْيَهُودُ-‏:‏ ‏(‏مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏البقرة 142‏]‏ الآية، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأنْصَارِ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ يصلون نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ‏:‏ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرِ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ نبى اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ به، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ، نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن مسعود قال‏:‏ صلى النبى، عليه السلام، قال إبراهيم‏:‏ لا أَدْرِي أزَادَ أَوْ نَقَصَ- فَلَمَّا سَلَّمَ، قِيلَ لَهُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا ذَاكَ‏؟‏‏)‏ قَالُوا‏:‏ صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ، لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ ليَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال ابن جريج‏:‏ صلى نبى الله أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس، فصلت الأنصار إلى نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث حجج، وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله إلى الكعبة البيت الحرام‏.‏

وروى أبو عوانة عن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏صلى رسول الله نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا ثم صرف إلى الكعبة‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ‏(‏كانت قبلة رسول الله بمكة إلى الشام، وكانت صلاته بين الركن اليمانى والركن الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين الشام‏)‏‏.‏

وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرًا، ثم انصرف إلى الكعبة‏)‏‏.‏

ففى خبر على بن أبى طلحة، عن ابن عباس أنه عليه السلام، لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة خلاف ما فى خبر مجاهد عنه، وخلاف ما قال ابن جريج، وخبر مجاهد أولى بالصواب؛ لأن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان نبى الله يقلب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله إلى الكعبة، حتى صرفه الله إليها، فأنزل تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك فى السماء ‏(‏إلى‏)‏ المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏، فارتاب اليهود، وقالوا‏:‏ ‏(‏ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏، يعنون بيت المقدس، فأنزل الله‏:‏ ‏(‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏،‏)‏ وما جعلنا القبلة التى كنت عليها ‏(‏يعنى‏:‏ مكة،‏)‏ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وأجمع العلماء أن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 149‏]‏، أنه استقبال الكعبة، وأن على المسلمين استقبالها فى صلواتهم إذا كانوا يعاينوها، والتوخى لاستقبالها وطلب الدلائل عليها إذا كانوا غائبين عنها، وسيأتى ما فى انحراف القوم فى الصلاة إلى الكعبة من الفقه بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

وأما قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه‏)‏، فإن العلماء اختلفوا فى تأويله، فذهبت طائفة إلى أنه يريد بالتحرى البناء على أكثر ظنه، ومعنى ذلك عندهم أنه إن كان أكثر ظنه أنه صلى أربعًا فى الأغلب يسلم ويسجد، وإن كان لا يدرى أثلاثًا صلى أم أربعًا، ولم يكن أحدهما أغلب فى قلبه من الآخر بنى على الأقل، وأتى بركعة حتى يعلم يقينًا أنه أدى ما عليه، وروى هذا عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، وأنس، وأبى سعيد الخدرى، والنخعى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، إلا أن أبا حنيفة قال‏:‏ إن كان ذلك أول ما عرض له، فليستأنف صلاته ولا يتحّر، وإن وقع له كثيرًا تحرّى‏.‏

وذهبت طائفة إلى أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏فليتحرى الصواب‏)‏ البناء على اليقين كقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أبى سعيد الخدرى‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا، فليصل ركعة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس، فإن كانت تلك الركعة خامسةً شفعها بالسجدتين، وإن كانت رابعةً كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏، رواه سليمان بن بلال، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، رُوى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سالم، والقاسم، والحسن، ومكحول، وهو قول مالك، والشافعى‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لهذا القول أن التحرى عندنا هو القصد إلى الصواب وطلبه حتى يكون البناء على اليقين، ألا تراه عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏لا يتحر أحدكم بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها‏)‏، أى‏:‏ لا يقصد ذلك، والتحرى رجوع إلى اليقين؛ ألا ترى أنه لو شك هل صلى أم لا رجع إلى يقينه وصلى، ولو شك فى صلاة من يوم وليلة لا يدرى أيما صلاة هى لم يجزئه التحرى، ورجع إلى يقينه فصلى خمس صلوات، فكان النظر على هذا أن يكون كذلك فى كل شىء من صلاته وعليه أن يأتى به ليؤدى صلاته بيقين، فكان حديث أبى سعيد تفسيرًا لحديث ابن مسعود‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فليتحر الصواب‏)‏، يوجب العمل بالتحرى وإلا انتفى الحديث، والواجب العمل بالأحاديث واستعمالها، ووجه استعمال التحرى إذا كان له رأيان، أحدهما أغلب فى قلبه من الآخر عمل به ويجزئ ذلك، وإذا لم يكن له رأيان أحدهما أغلب عنده من الآخر، وجب البناء على الأقل على ما فى حديث أبى سعيد، فصار كل واحد من الحديثين له معنى غير معنى صاحبه، وهكذا تستعمل الأحاديث ولا تتضاد‏.‏

وقال محمد بن جرير‏:‏ إن حديث ابن مسعود فى التحرى، وحديث البناء على اليقين لا يخالف واحد منهما صاحبه، وذلك أن أمره عليه السلام بالبناء على اليقين، والأخذ بالاحتياط ليس فيه إعلام أنه من بنى على الأغلب عنده أنه قد صلى أنها لا تجزئه صلاته، فإن احتاط للشك، فبنى على اليقين فهو أفضل وأسلم لدينه، وإن بنى على أكثر رأيه متحريًا فى ذلك الأغلب عنده لم يكن مخطئًا فى فعله؛ لأن كل مصلٍ إنما كلف أن يعمل بما عنده من علمه، لا على إحاطة العلم بيقينه ذلك، فلو كلف اليقين من العلم دون الظاهر لم يكن لأحد صلاة إذ لا سبيل لأحد إلى يقين العلم بذلك‏.‏

وذلك أن الله أمر عباده بالصلاة فى الثياب الطاهرة والتطهر بالمياه الطاهرة، ولا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أنهم لم يكلفوا فى شىء من ذلك إحاطة العلم بيقينه، فكذلك عدد الصلاة إنما كلف فى ذلك العلم الذى هو عنده، فإن بنى على العلم الظاهر الذى هو عنده أجزأه، وإن أخذ بالاحتياط فبنى على اليقين، فهو أفضل له إذا كان له سبيل إلى الوصول إلى يقين ذلك، وإن لم يكن له سبيل إليه عمل على الأغلب من ظاهر علمه، وكذلك القول فى جميع أحكام الدين، ومن أبى شيئًا من ذلك سُئل عن المصلى فى موضع لا يعلمه طاهرًا ولا نجسًا إلا علمًا ظاهرًا، وعن من توضأ بماء لا يعلمه إلا كذلك، فإن زعم أن عليه الإعادة خرج من قول جميع الأئمة، وإن قال‏:‏ صلاته ماضية سئل أيفرق بينه وبين الشاك فى صلاته بإتمامها، البانى على الأغلب من علمه‏؟‏ فلن يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله، هذا قول الطبرى‏.‏

وفى أمر الرسول الشاك فى صلاته بإتمامها دليل أن الزيادة فى الصلاة سهوًا أو لإصلاحها لا تفسدها؛ لأن الشاك إذا أمره بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو اثنتين، وممكن أن يكون صلى اثنتين، وقد حكمت السنة أن ذلك لا يضره فهذا يبطل قول من قال‏:‏ إن من زاد فى صلاته مثل نصفها ساهيًا أن صلاته فاسدة، وهو قول ابن القاسم، وابن كنانة، وابن نافع‏.‏

وقد أجمع العلماء أن من شك فى مثل ذلك فى صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين أن حكمه فى ذلك حكم من شك فى مثل ذلك من الظهر أو العصر، وقد صلى رسول الله الظهر خمسًا ساهيًا، فسجد لسهوه، وحُكم الركعة والركعتين فى ذلك سواء فى القياس والمعقول‏.‏

وقال ابن حبيب عن مطرف‏:‏ أنه من صلى ستًا أو ثمانيًا سجد لسهوه وهو قول ابن عبد الحكم وأصبغ، وحكى أبو زيد، عن ابن الماجشون مثله‏.‏

وقد روى ابن القاسم عن مالك أن من صلى المغرب خمسًا ساهيًا أنه يجزئه سجود السهو، قال يحيى بن عمر‏:‏ هذا يرد قول من قال فيمن زاد فى صلاته مثل نصفها‏.‏

باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الإعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا، وصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ

وَقَدْ سَلَّمَ نبِيُّ الله فِي رَكْعَتَيِ الظُّهْرِ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ‏.‏

- فيه‏:‏ أنس قال‏:‏ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ ‏(‏وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة 125‏]‏ الآيَةُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏بيَنْا النَّاسُ بِقُبَاء فِى صَلاَة الصُّبْحِ إِذ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيلةَ قُرآَنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنَّ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهْم إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أن نَّبِيُّ الله صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقَالُوا‏:‏ أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَمَا ذَاكَ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فيمن اجتهد فى القبلة فاستدبرها أو شرق أو غرب، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى‏:‏ لا يعيد، وهو قول عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والنخعى، وقال النخعى‏:‏ إن كان قد صلى بعض صلاته لغير القبلة، ثم عرف ذلك فى الصلاة فاستقبل القبلة ببقية صلاته، فإنه يحتسب بما كان صلى كما فعل أصحاب النبى بقباء، وهو قول الثورى، وقال مالك‏:‏ من اجتهد فى القبلة فأخطأ، فإنه يعيد فى الوقت استحبابًا، وهو قول الحسن، والزهرى، وقال الشافعى‏:‏ إن فرغ من صلاته ثم بان له أنه صلى إلى المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يَبِنْ له ذلك إلا باجتهاده، فلا إعادة عليه، والذى ذهب إليه البخارى فى هذا الباب قول من قال‏:‏ لا يعيد‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ لأن المجتهد فى القبلة إنما أُمر بالطلب ولم يكلف الإصابة، وإنما أمر الله بإصابة عين القبلة من نظر إليها، وأما من غاب عنها فلا سبيل إلى علم حقيقتها؛ لأنه إنما يعلم القبلة بغلبة الظن من مهب الرياح ومسير النجوم، وإذا كان كذلك فإنما يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد ولا يرتفع حكم الاجتهاد الأول؛ كالحاكم يحكم باجتهاده، ثم تبين له اجتهاد آخر فلا يجوز له فسخ الأول‏.‏

وليس للشافعى أن يقول‏:‏ إن مستدبر القبلة قد رجع من اجتهاده إلى يقين؛ لأنه لا يتيقن باستقباله نفس القبلة فى هذه الجهة، وإنما يغلب ذلك على ظنه ويُبين ذلك الإجماع على جواز صلاة أهل الآفاق ومعلوم أن كل واحدٍ منهم غير محاذ للكعبة، وإنما يحصل ذلك للأقل منهم، وقد جازت صلاتهم لوقوع ذلك بالاجتهاد، والدليل على ذلك من حديث أهل قُباء أنهم صلوا إلى غير القبلة بعد الصلاة، ثم لم يؤمروا بالإعادة؛ لأنهم لم يمكنهم الوصول إلى العلم بالجهة التى كانوا مأمورين بالصلاة إليها، وإنما صلوا إلى قبلة مفترضة عليهم كما المجتهد مُصلٍّ عند نفسه إلى القبلة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وجه احتجاج البخارى بحديث ابن عمر فى هذا الباب هو انحرافهم إلى القبلة التى افترضت وهم فى انحرافهم مصلون إلى غير القبلة، ولم يؤمروا بالإعادة بل بنوا على ما كانوا صلوا فى حال الانحراف وقبله، وكذلك المجتهد فى القبلة لا يلزمه الإعادة‏.‏

وقد أشار البخارى فى ترجمته إلى هذا الاستدلال من حديث ابن مسعود فقال‏:‏ وقد سلم النبى، عليه السلام، فى ركعتى الظهر وأقبل على الناس بوجهه، وذلك أن انصرافه وإقباله على الناس بوجهه بعد سلامه، كان وهو عند نفسه فى غير صلاة، فلما بنى على صلاته بأنه كان فى وقت استدبار القبلة فى حكم المصلى؛ لأنه لو خرج من الصلاة لم يجز له أن يبنى على ما مضى منها عند أهل الحجاز، فوجب بهذا أن من أخطأ القبلة أنه لا يعيد‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ فى انحراف أهل قباء إلى الكعبة وهم فى إحرام الصلاة التى دخلوا فيها بالتوجه إلى بيت المقدس دليل أنه من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة إليه، ولم يمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض فى ذلك غير لازم له، وأن الحجة فيه غير قائمة عليه، وإنما يجب عليه الفرض حين يعلمه وتقوم عليه الحجة حين يمكنه استعماله؛ ولهذا دعا رسول الله المشركين قبل أن يقاتلهم إلى الإسلام، وبَيَّنَ لهم ذلك، ثم ترك ذلك فى آخرين سواهم من بنى المصطلق وغيرهم، فقاتلوهم وهم غادون على الماء؛ لأن الدعوة قد كانت بلغتهم‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قد كان فرض استقبال الكعبة فى الصلاة وجب على أهل قباء قبل دخولهم فى الصلاة؛ لأن الآية التى أمر بذلك فيها نزلت ليلاً، إنما انحرفوا إلى الكعبة فى الصلاة التى علموا بنزول الآية فيها وقد لحقهم الفرض قبل دخولهم فى الصلاة، وإنما عُذِروا فى صلاتهم إلى غير القبلة بالجهل منهم بها‏.‏

قيل له‏:‏ وكيف يكون لله فرض على من لم يعلم بفرضه عليه‏؟‏ لو كان كذلك للحقت فرائضه المجانين الذين لا علم معهم، فلما كان المجانين بارتفاع العلم عنهم غير داخلين فى الفرض؛ كذلك كان كل من لم يعلم بالفرض غير واجب عليه الفرض‏.‏

فإن قال‏:‏ ما تقولون فى الرجل يسلم فى دار الحرب أو دار الإسلام، ويمر عليه شهر رمضان لم يصمه، وتمر عليه صلوات ولم يصلها، ولم يعلم أن الله فرض شيئًا من ذلك على المسلمين، ثم علم بعد ذلك بأن هذا قد كان فرضًا من الله على المسلمين‏؟‏‏.‏

قيل له‏:‏ للعلماء فى هذا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه إن كان فى دار الحرب حيث لا يجد من يستعلم ذلك منه أنه لا يجب عليه قضاء شىء مما مر عليه من الفرائض، وإن كان فى دار الإسلام أو فى دار الحرب بحضرة من يمكنه استعلام ذلك منه من المسلمين أنه يجب عليه قضاء ما مر عليه من فرض الصلاة والصوم؛ لأنه قد كان يلزمه استعلام ذلك ممن بحضرته من المسلمين، وهذا قول أبى حنيفة‏.‏

والقول الآخر‏:‏ أنه يقضى ما مر عليه من الصلوات والصيام ويستوى فى ذلك مروره عليه فى دار الحرب أو دار السلام هذا قول أبى يوسف‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وهو قول مالك والشافعى‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ القول الأول أولى وليس على أهل قباء من هذا شىء؛ لأنهم كانوا على حقائق فرض قد كان لله عليهم، ولم يكن عليهم السؤال والاستعلام عن زواله عنهم ولا عن حدوث فرض غيره عليهم، لفما لم يكن ذلك عليهم سقط عنهم الفرض الحادث الذى لم يعلموا به، وليس كذلك من سواهم ممن عليه السؤال والاستعلام عن فرائض الله‏.‏

وفى حديث ابن عمر‏:‏ أن أفعال الرسول لازمة كأقواله حتى يأتى دليل الخصوص‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجوز أن يفتح من ليس فى الصلاة على من فى الصلاة إذا عدم المصلى اليقين؛ لأن الذى أخبرهم وهم فى الصلاة بصلاة النبى إلى الكعبة كان حاضرًا واقتدى بقوله‏.‏

وفيه‏:‏ قبول خبر الواحد والعمل به؛ لأن الصحابة قد استعملوه وقضوا به وتركوا قبلتهم بخبر الواحد، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنَ الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ ‏(‏أَنَّ نَّبِيَّ الله رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ، فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَلاة، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَزقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ‏:‏ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه إكرام القبلة وتنزيهها؛ لأن المصلى يناجى ربه فواجب عليه أن يكرم القبلة مما يكرم منه المخلوقين إذا ناجاهم واستقبلهم بوجهه؛ بل قبلة الله تعالى أولى بالإكرام‏.‏

وقال طاوس، رحمه الله‏:‏ أكرموا قبلة الله لا تبزقوا فيها‏.‏

وأبان صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أن معنى نهيه عن البزاق فى القبلة إنما هو من أجل مناجاته لربه عند استقباله القبلة فى صلاته، ومن أعظم الجفاء وسُوءِ الأدب أن تتوجه إلى رب الأرباب وملك الملوك وتتنخم فى توجهك؛ وقد أعلمنا الله تعالى، بإقباله على من توجه إليه ومراعاته لحركاته‏.‏

وفيه‏:‏ طهارة البزاق؛ لأنه لو كان غير طاهر ما بزق عليه السلام، فى ثوبه ولا أمر بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ فضل الميمنة على الميسرة‏.‏

باب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنَ الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أبو هريرة، وأبو سعيد‏:‏ ‏(‏أَنَّ نبى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً، فَحَكَّهَا، فَقَالَ‏:‏ إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى‏)‏‏.‏

والذى يرى البزاق فى المسجد مخير فيه إن شاء حته بحصاة أو بيده أو بما يزيله، وفائدة هذه الأحاديث تنزيه المسجد وإكرام القبلة، وقد ترجم لحديث أبى هريرة‏:‏ ‏(‏باب دفن النخامة فى المسجد‏)‏، وزاد فيه‏:‏ ‏(‏ولا يبزق عن يمينه، فإن عن يمينه ملكًا‏)‏، فذكر علة نهيه عن يمينه أنه من أجل كون الملك عن يمينه إكرامًا له وتنزيهًا‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ حَتَتُّ الشىء عن الثوب، فركته، والحتات‏:‏ ما تحات منه، أى‏:‏ تساقط‏.‏

باب كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أنس قال نبى الله‏:‏ ‏(‏الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا‏)‏‏.‏

إنما كان البزاق فى المسجد خطيئة لنهيه عنها، ومن فعل ما نهى عنه فقد أتى بخطيئة، ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يكاد يسلم من ذلك؛ فعرف أمته كفارة تلك الخطيئة، وأمر المصلى أن يبزق فى ثوبه، أو تحت قدمه ليعركه ويغيره، ولا تقع عليه عين أحد، غير أن ارتكاب الخطيئة لا يكون إلا بالقصد والعلم بالنهى عنها، وأما من غلبته النخامة فقد ندب إلى دفنها وحتِّها وإزالتها، ومن فعل ما ندب إليه فمأجور‏.‏

وروى الطبرى قال‏:‏ حدثنا عمرو بن على، ثنا ابن أبى عدى، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمد بن أبى عتيق، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ سمعت النبى يقول‏:‏ ‏(‏إذا تنخم أحدكم فى المسجد فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى هذا من الفقه ترخيص الرسول فى التفل فى المسجد والتنخم فيه إذا دفنه، وأبان عن معنى كراهته لذلك إذا لم تدفن، وذلك أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، وإذا كان ذلك كذلك فبين أن متنخمًا لو تنخم فى المسجد فى غير قبلته بحيث يأمن أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه، فلا حرج عليه فيه واستحب له أن يدفنه، وإن كان بموضع يأمن أن يصيب به أحدًا لقوله‏:‏ ‏(‏البزاق فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها‏)‏، يعم بذلك المسجد كله، ولم يخصص منه موضعًا دون موضع، فخبرُ سعد مُفسر لما أُجمل فى حديث أنس، وأبى هريرة، وأَمرهُ بدفنها إنما هو فى الحال التى يخشى فيها أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه‏.‏

باب عِظَةِ الإمَامِ فِي إِتْمَامِ الصَّلاةِ

- فيه‏:‏ أبو هريرة‏:‏ قال نبى الله‏:‏ ‏(‏هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا‏؟‏، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلا خُشُوعُكُمْ، إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ أنه ينبغى للإمام إذا رأى أحدًا مقصرًا فى شىء من أمر دينه أو ناقصًا للكمال منه أنه ينهاه عن فعله، ويحضه على ما له فيه جزيل الحظ؛ ألا ترى أن الرسول وبخ من نقص كمال الركوع والسجود ووعظهم فى ذلك بأنه يراهم، وقد أخذ الله على المؤمنين ذلك إذا مكنهم فى الأرض بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إنى أراكم من وراء ظهرى‏)‏، يحتمل أن يراهم بما يوحى إليه من أفعالهم وهيئاتهم فى الصلاة؛ لأن الرؤية قد يعبر بها عن العلم والاعتقاد، ويحتمل أن يكون يراهم بما خص به أن زيدَ فى قوة بصره حتى يرى من ورائه، وقال أحمد بن حنبل فى هذا الحديث‏:‏ إنه كان يرى من وراءه كما يرى بعينه، فالله أعلم بما أراد من ذلك‏.‏

باب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلان

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أَنَّ نبى اللَّهِ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ المساجد بيوت الله، وأهلها أهل الله، وفى هذا الحديث جواز إضافتها إلى البانين لها، والمصلى فيها، وفى ذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها ونسبتها إليهم، وليس فى ذلك تزكية لهم، وليست إضافة المسجد إلى بنى زريق إضافة ملك، وإنما هى إضافة تمييز‏.‏

وروى عن النخعى أنه كان يكره أن يقال‏:‏ مسجد بنى فلان، ولا يرى بأسًا أن يقال‏:‏ مصلى بنى فلان، وهذا الحديث يرد قوله، ولا فرق بين قوله‏:‏ مصلى، ومسجد، والله الموفق‏.‏

باب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ الْقِنْوُ‏:‏ الْعِذْقُ، وَالاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا قِنْوَانٌ، مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ- يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ-‏:‏ عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ ‏(‏أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ‏:‏ فَقَالَ‏:‏ انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ خُذْ فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ‏.‏

فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ‏:‏ لا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ‏:‏ لا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة أو غيرها فى المسجد؛ لأن المسجد لا يُحجب أحد من ذوى الحاجة من دخوله والناس فيه سواء، وكذلك أمور جماعة المسلمين يجب أن تعمل فى المسجد، وليس فى هذا الباب تعليق قنو فى المسجد وأغفله البخارى‏.‏

وتعليق القنو فى المسجد أمر مشهور، ثم ذكر ابن قتيبة فى غريب الحديث أن نبى الله خرج، فرأى أقناء معلقة فى المسجد، وذكر ثابت فى ‏(‏غريب الحديث‏)‏ أن نبى الله أمر من كل حائط بقنو، يعنى للمسجد، معنى ذلك أن ناسًا كانوا يقدمون على رسول الله لا شىء لهم، فقالت الأنصار‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، لو عجلنا قنوًا من كل حائط لهؤلاء، قال‏:‏ أجل فافعلوا‏)‏، فجرى ذلك إلى اليوم، فهى الأقناء التى تعلق فى المسجد فيعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رسول الله، معاذ بن جبل‏.‏

قال ابن القاسم‏:‏ قد سئل مالك عن أقناء تكون فى المسجد وشبه ذلك، فقال‏:‏ لا بأس بها، وسئل عن الماء الذى يسقى فى المسجد أترى أن يشرب منه قال‏:‏ نعم إنما يجعل للعطشى، ولم يرد به أهل المسكنة؛ فلا أرى أن يترك شربه، ولم يزل هذا من أمر الناس قال‏:‏ وقد سقى سعد بن عبادة، فقيل له‏:‏ فى المسجد‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن فى منزله الذى كان فيه، وليس ما ذكره ثابت أن الأقناء كانت تجعل فى المسجد للمساكين بخلاف لقول مالك؛ لأن مالكًا إِذْ سئل عن الأقناء لم تكن تجعل حينئذ للمساكين خاصة؛ لأن زمان مالك كان الناس فيه أوسع حالاً منهم فى أول الإسلام، فكان يجعل فى وقت مالك على طريق التوسعة للناس لا يراد بها المساكين، وإنما يراد بها كل من دخل المسجد من غنى أو مسكين، ألا ترى أن مالكًا شبه ذلك بالماء الذى يجعل للعطشان ولا يراد به المساكين‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أن القسمة إلى الإمام على قدر اجتهاده‏.‏

وفيه‏:‏ العطاء لأحد الأصناف الذين ذكرهم الله فى كتابه دون غيرهم؛ لأنه أعطى العباس لما شكا إليه من الغرم الذى فدحه، ولم يسوه فى القسمة مع الثمانية الأصناف، ولو قسم ذلك على التساوى لما أعطى العباس بغير مكيال ولا ميزان، وإنما أعطاه بقدر استقلاله عن الأرض، ولم يعط لأحدٍ غيره مثل ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن السلطان إذا علم من الناس حاجة إلى المال أنه لا يحل له أن يدخر منه شيئًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ كرم رسول الله وزهده فى الدنيا وأنه لم يمنع شيئًا سُئله إذا كان عنده‏.‏

وفيه‏:‏ أن للسلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان فى ذلك حاجة، وإن كان فيه نفع لخاصة من الناس إذا كان فيه ضرر لعامتهم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإنما لم يأمر برفع المال على عنق العباس، والله أعلم، ليزجره ذلك عن الاستكثار فى المال الذى ظهر منه، وألا يأخذ من الدنيا فوق حاجته ويقتصر على ما يبلغ منها المحل، كما كان يفعله عليه السلام، ولهذا لم يرفعه على عنقه لئلا يعينه على ما لا يرضاه وما نهى عنه‏.‏

باب مَنْ دُعي لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيهِ

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ وَجَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ، قَالَ لى‏:‏ ‏(‏آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ‏؟‏، قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ‏:‏ لِطَعَامٍ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ لِمَنْ حوله‏:‏ قُومُوا، فَانْطَلَقَوا، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن طعام وليمة‏.‏

وفيه‏:‏ أن الدعاء إلى ذلك من المسجد وغيره سواء؛ لأن ذلك من أعمال البر وليس ثواب الجلوس فى المسجد بأقل ثوابًا من إطعام الناس الطعام، وقد قال رجل‏:‏ يا رسول الله، أى الإسلام خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏)‏، وأيضًا فإن النبى كان محتاجًا إلى الأكل، فقد جاء فى هذا الحديث أنه إنما دعاه إليه؛ لأنه سمع صوتًا ضعيفًا فعرف فيه الجوع‏.‏

وفيه‏:‏ دعاء السلطان إلى الطعام القليل‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرجل الكبير إذا دُعِى إلى طعام وعلم أن صاحبه لا يكره أن يجلب معه غيره، وأن الطعام يكفيهم أنه لا بأس أن يحمل معه من حضره، وإنما حملهم الرسول إلى طعام أبى طلحة، وهو قليل، لعلمه أنه يكفى جميعهم، وأنه لا ينقص منه شىء لبركته وما خصه الله به من كرامة النبوة وفضيلتها، وهذا من علامات نبوته عليه السلام، وكذلك إذا علم الرئيس المدعو إلى طعام أن صاحبه يُسَرُّ بمن يأكل طعامه، وأن طعامه لا يعجز عنهم لكثرته وجدة صاحبه أنه لا بأس أن يحمل غيره، وسأزيد فى معنى هذا الحديث فى كتاب الأطعمة، إن شاء الله‏.‏

باب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

- فيه‏:‏ سهل بن سعد‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَجُلا قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ‏؟‏ فَتَلاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ القضاء جائز فى المسجد عند عامة العلماء، وقال مالك‏:‏ جلوس القاضى فى المسجد للقضاء من الأمر القديم المعمول به، وكان شريح، وابن أبى ليلى يقضيان فى المسجد، وروى عن سعيد بن المسيب كراهية ذلك قال‏:‏ لو كان لى من الأمر شىء ما تركت اثنين يختصمان فى المسجد‏.‏

وقد ترجم باب‏:‏ ‏(‏من قضى ولاعنَ فى المسجد‏)‏، فى كتاب الأحكام وفيه زيادة على ما فى هذا الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ أن اللعان يكون فى المساجد ويحضره الخلفاء أو من استخلفه الحاكم، وأن أيمان اللعان تكون فى الجوامع؛ لأنها مقاطع الحقوق‏.‏

باب إِذَا دَخَلَ بَيْتًا، يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ، وَلا يَتَجَسَّسُ

- فيه‏:‏ عتبان بن مالك‏:‏ أَنَّ نَّبِيَّ الله أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ‏؟‏‏)‏، قَالَ‏:‏ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ وَصَفّنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏يصلى حيث شاء أو حيث أُمر ولا يتجسس‏)‏، لا يقتضى لفظ الحديث أن يصلى حيث شاء، وإنما يقتضى أن يصلى حيث أُمر لقوله‏:‏ ‏(‏أين تحب أن أصلى لك‏؟‏‏)‏ ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏(‏ولا يتجسس‏)‏، فكأنه قال‏:‏ باب إذا دخل بيتًا هل يصلى حيث شاء أو حيث أُمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استأذنه فى موضع الصلاة، ولم يصل حيث شاء، فبطل حكم حيث شاء‏.‏

باب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ

وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً‏.‏

- وذكر فيه حديث عتبان بن مالك بطوله‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه اتخاذ المساجد فى البيوت والصلاة بالأهل وغيرهم عند الضرورات، ألا ترى أن عتبان قال لنبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى قد أنكرت بصرى وأنا أصلى لقومى، فإذا سال الوادى الذى بينى وبينهم لم أستطع أن أتى مسجدهم، وودت يا رسول الله أنك تأتينى، فتصلى فى بيتى فأتخذه مصلى‏)‏، ففعل ذلك نبى الله، فبان بهذا أنه لولا العذر لم يتخلف عن مسجد الجماعة‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ التخلف عن الصلاة فى الجماعة للعذر‏.‏

وقال عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ ترك السنن للمشقة رخصة، ومن شاء أن يأخذ بالشدة أخذ، كما خرج نبى الله صلى الله عليه وسلم يُهادى بين رجلين إلى الصلاة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من دُعى من الصالحين إلى شىء يتبرك به منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العجب‏.‏

وفيه‏:‏ الوفاء بالعهد‏.‏

وفيه‏:‏ صلاة النافلة فى جماعة بالنهار‏.‏

وفيه‏:‏ إكرام العالم إذا دعى إلى شىء بالطعام وشبهه‏.‏

وفيه‏:‏ التنبيه على أهل الفسق والنفاق عند السلطان‏.‏

وفيه‏:‏ أن السلطان يجب أن يستثبت فى أمر من يذكر عنده بفسق ويوجه له أجمل الوجوه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الجماعة إذا اجتمعت للصلاة وغاب أحدهم أن يسألوا عنه، فإن كان له عذر وإلا ظن به الشَّر، وهو مفسر فى قوله‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن آمر بحطب‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثاب رجال‏)‏، قال صاحب العين‏:‏ ثاب الحوض، امتلأ، والمثابة‏:‏ مجتمع الناس بعد تفرقهم، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏

باب التَّيَمُّنُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى‏.‏

- فيه‏:‏ عائشة قَالَتْ‏:‏ ‏(‏كَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ‏)‏‏.‏

وقد تقدم هذا فى كتاب الطهارة، ونذكر هنا ما لم ينص هناك‏.‏

قال عطاء‏:‏ قال عبد الله بن عمرو‏:‏ خير المسجد المقام، ثم ميامين المسجد‏.‏

وكان ابن المسيب يصلى فى الشق الأيمن من المسجد‏.‏

وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإمام‏.‏

وكان أنس بن مالك يصلى فى الشق الأيسر من المسجد، وعن الحسن، وابن سيرين مثله‏.‏

باب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ

، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ فِي الْقُبُورِ‏.‏

وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الْقَبْرَ، الْقَبْرَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعَادَةِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذلك لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا، فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أنس قَالَ‏:‏ ‏(‏قَدِمَ نَّبِيُّ الله الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ‏:‏ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ الرسول فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِين السُّيُوفِ، فكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى نَّبِيِّ الله عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلأ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ، حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَإنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ‏:‏ يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا‏:‏ لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكان فِيهِ خَرِبٌ، ونَخْلٌ، فَأَمَرَ الرسول بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، والرسول مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه قال المؤلف‏:‏ أما نبش قبور المشركين ليتخذ مكانها مساجد، فلم أجد فيه نصًا لأحدٍ من العلماء، غير أنى وجدت اختلافهم فى نبش قبورهم طلبًا للمال، فأجاز ذلك الكوفيون والشافعى، وقال الأوزاعى‏:‏ لا يفعل؛ لأن الرسول لما مر بالحجر قال‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏، فنهى أن ندخل عليهم بيوتهم فكيف قبورهم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد أباح دخولها على وجه البكاء، واحتج من أجاز ذلك بحديث أنس أن نبى الله أمر بقبور المشركين، فنبشت عند بناء المسجد‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج من أجاز ذلك أن نبى الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف قال‏:‏ ‏(‏هذا قبر أبى رغال‏)‏، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة بهذا المكان، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، فابتدره الناس ونبشوه، واستخرجوا منه الغصن، وإذا جاز نبشها لطلب المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها لبناء مسجد أو غيره أولى‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل يجوز أن يبنى المسجد على قبور المسلمين‏؟‏ وهل يدخل ذلك فى معنى لعنة اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ لا يدخل فى ذلك لافتراق المعنى؛ وذلك أنه عليه السلام، أخبر أن اليهود يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ويقصدونها بعبادتهم، وقد نسخ الله جميع المعبودات بالإسلام والتوحيد، وأمر بعبادته وحده لا شريك له‏.‏

قال غيره‏:‏ والقبور التى أمر النبى بنبشها لبناء المسجد كانت قبورًا لا حرمة لأهلها؛ لأن العرب هنالك لم يكونوا أهل كتاب، فلم يكن لعظامهم حرمة، ولو كانوا أهل كتاب لم تنبش؛ لأنهم ماتوا قبل الإسلام فهم على أديان أنبيائهم لهم حرمة الإيمان بأنبيائهم، وهم والمسلمون سواء، وكذلك أهل الذمة اليوم من اليهود والنصارى، لا يجوز نبش قبورهم لاتخاذ مسجد ولا غيره، فإن لم يكونوا أهل ذمة، وكانوا أهل حرب واحتيج إلى موضع قبورهم، فلا بأس بنبشها إن كانت قبرت بعد الإسلام، وإن كانت قديمة قبل الإسلام، فلا يجوز ذلك لما قلنا إن لهم حرمة الإسلام بأنبيائهم، إلا أن يعلم أنهم لم يكونوا أهل كتاب‏.‏

وأجاز أكثر الفقهاء نبش قبور المشركين طلبًا للمال، وهذا قول أشهب وقال‏:‏ ليس حرمتهم موتى بأعظم منها أحياء، وهو مأجور فى فعل ذلك بالأحياء منهم‏.‏

وقال مالك فى المدونة‏:‏ أكرهه وليس بحرام‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عَفَتْ، فبنى قوم عليها مسجدًا لم أر بذلك بأسًا، وكذلك ما كان لله لا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وينقل بعضه إلى بعض، فمعناه أن المقابر هى وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد تملكها، فإذا عفت ودثرت واستغنى عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأن المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد كما لا يجوز تملك المقبرة فنقلها إذا دثرت إلى المسجد معناهما واحد فى الحكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأولئك شرار الخلق عند الله‏)‏، فيه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما نهى عن ذلك، والله أعلم، قطعًا للذريعة ولقرب عبادتهم الأصنام واتخاذ القبور والصورة آلهة، ولذلك نهى عُمر أنسًا عن الصلاة إلى القبر، وكان له مندوحة عن استقباله وكان يمكنه الانحراف عنه يمنة أو يسرة، ولما لم يأمره بإعادة الصلاة علم أن صلاته جائزة‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ

- فيه‏:‏ أنس قال‏:‏ ‏(‏كَانَ نَّبِيُّ الله يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ‏:‏ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة فى مرابض الغنم إلا الشافعى، فإنه قال‏:‏ لا أكره الصلاة فى مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبوالها وأبعارها‏.‏

وممن روينا عنه إجازة الصلاة فى مرابض الغنم‏:‏ عبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، ودخل أبو ذر زرب غنم، فصلى فيه، وعن الزبير أنه صلى فى مراح الغنم وهو يجد مكانًا غيره، وصلى ابن عمر فى رتق، فى أخرى‏:‏ فى دِمَن الغنم، وروى ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وصلى النخعى فى دمنة الغنم، وهذا الحديث مع ما ذكرنا من أقوال السلف حجة على الشافعى، ومن قال بقوله؛ لأن قول أنس كان نبى الله صلى الله عليه وسلم يصلى فى مرابض الغنم، ولم يخص مكانًا من مكان، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من أبعارها وأبوالها يدل أن الصلاة مباحة على ذلك، ويدل أن أبوالها وأبعارها طاهرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والصلاة أيضًا جائزة فى مراح البقر استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أينما أدركتك الصلاة فصلّ‏)‏، وهو قول عطاء، ومالك، وجماعة‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإبِلِ

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه كان يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَ‏:‏ رَأَيْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فكره مالك، والشافعى الصلاة فى أعطان الإبل، وقال ابن القاسم‏:‏ لا بأس بالصلاة فيها إن سلمت من مذاهب الناس، وقال أصبغ‏:‏ من صلى فيها أعاد فى الوقت‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ ذهب قوم إلى أن الصلاة فى أعطان الإبل مكروهة حتى غلا بعضهم فى ذلك فأفسد الصلاة، واحتجوا بما رواه يونس عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن نبى الله قال‏:‏ ‏(‏صلوا فى مرابض الغنم، ولا تصلوا فى أعطان الإبل‏)‏، وبما روى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، مولى بنى هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن البراء بن عازب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تصلوا فى مبارك الإبل وصلوا فى مرابض الغنم‏)‏، وخالفهم آخرون فأجازوا الصلاة فى أعطان الإبل، واحتجوا بأن الآثار التى جاءت بالنهى عن الصلاة فى أعطان الإبل قد تكلم الناس فى معناها، والسبب الذى من أجله كان النهى، فقال قوم‏:‏ إنما ذلك؛ لأن من عادة أصحاب الإبل التغوط بقربها فتنجس أعطانها، ومن عادة أصحاب الغنم ترك التغوط بينها، وروى عن شريك بن عبد الله أنه كان يفسر الحديث بهذا‏.‏

وقال يحيى بن آدم‏:‏ ليس العلة عندى هذه، وإنما هى لما يخاف من وثوبها، وعطب من تلاقى حينئذٍ، ألا تراه يقول‏:‏ ‏(‏فإنها جن خلقت من جنّ‏)‏، وقال فى حديث رافع بن خديج‏:‏ ‏(‏إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش‏)‏، وهذا غير مخوف من الغنم، فأمر باجتناب الصلاة فى معاطن الإبل خوف ذلك لا لنجاسة، وقد ثبت حديث ابن عمر أن نبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كان يصلى إلى بعيره‏)‏، فعلم بذلك أنه لم ينه عن الصلاة فى أعطان الإبل؛ لأنه لا تجوز الصلاة بحذائها، واحتمل أن تكون الكراهية لعلة ما يكون فى معاطنها من أرواثها وأبوالها، فنظرنا فى ذلك، فرأينا مرابض الغنم كل قد أجمع على جواز الصلاة فيها، وكان حكم أبوال الإبل وأرواثها كحكم أبوال الغنم وأرواثها لا فرق بين ذلك فى نجاسة وطهارة؛ لأن من جعل أبوال الإبل طاهرة جعل أبوال الغنم كذلك، ومن جعل أبوال الإبل نجسة جعل أبوال الغنم كذلك، فلما أبيحت الصلاة فى مرابض الغنم فى الحديث الذى نهى فيه عن الصلاة فى أعطان الإبل ثبت أن النهى عن ذلك ليس العلة نجاسة ما يكون منها، فإن كان لما قاله شريك، فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول عطنًا كان أو غيره، وإن كان لما قاله يحيى، فإن الصلاة مكروهة بحيث يخاف على النفوس، عطنًا كان أو غيره، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لا يختلفون فى مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا فى الإبل، فرأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم فى طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها فى طهارتها أو نجاستها، فكان يجىء فى حكم النظر أن يكون حكم الصلاة فى مواضع الإبل كهو فى مواضع الغنم قياسًا ونظرًا، وهذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد‏.‏

باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ، فَأَرَادَ بِهِ وجه اللَّهَ

وَقَالَ أَنَسُ قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي‏.‏

- فيه‏:‏ ابن عباس‏:‏ ‏(‏انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى نبى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ‏)‏‏.‏

الصلاة جائزة إلى كل شىء إذا لم يقصد الصلاة إليه وقصد بها الله، تعالى، والسجود لوجهه خالصًا، ولا يضره استقبال شىء من المعبودات وغيرها كما لم يضر الرسول ما رآه فى قبلته من النار‏.‏

وقال أشهب فى المجموعة‏:‏ وإن صلى إلى قبلة فيها تماثيل لم يُعِدْ، وهو مكروه‏.‏

باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي الْمَقَابِرِ

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ قال نَّبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الصلاة فى المقبرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو أنهم كرهوا الصلاة فى المقبرة، وروى عن عطاء، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، واختلف فيه قول مالك فروى عنه أبو المصعب أنه قال‏:‏ لا أحب ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه قال‏:‏ لا بأس بالصلاة فيها‏.‏

وكل من كره الصلاة من هؤلاء لا يرى على من صلى فيها إعادة، وقال أهل الظاهر‏:‏ لا تجوز الصلاة فى المقبرة، قال ابن المنذر‏:‏ وحجة الذين كرهوا ذلك قول الرسول‏:‏ ‏(‏اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا‏)‏، وفى قوله هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة، وسيأتى ما قيل فى هذا المعنى فى آخر كتاب الصلاة فى باب‏:‏ التطوع فى البيت، إن شاء الله‏.‏

وحجة من أجاز الصلاة فيها قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأينما أدركتنى الصلاة صليت‏)‏، فلم يخص موضعًا من موضع، فهو عام فى المقبرة وغيرها‏.‏

قال مالك‏:‏ وقد بلغنى أن بعض أصحاب رسول الله كان يصلى فى المقابر، وحكى ابن المنذر أن واثلة بن الأسقع كان يصلى فى المقبرة غير أنه كان لا يستتر بقبر، وصلى الحسن البصرى فى المقابر‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ

وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ أَنَّ نبى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما هذا من جهة التشاؤم بالبقعة التى نزل بها سخط الله يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏(‏وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 45‏]‏، فوبخهم تعالى على ذلك، وكذلك تشاءم عليه السلام، بالبقعة التى نام فيها عن الصلاة ورحل عنها ثم صلى، فكراهية الصلاة فى موضع الخسف أولى، إلا أن إباحة الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار يدل أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع وخشوع واعتبار، فإن صلى هناك غير باكٍ لم تبطل صلاته، وذكر بعض أهل الظاهر أن من صلى فى الحجر، بلاد ثمود، وهو غير باك، فعليه سجود السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وكذلك من صلى فى موضع مسجد الضرار، وهذا خُلْف من القول لا خفاء بسقوطه، إن كان لا يجوز عنده فيه صلاة من تعمد ترك البكاء، فكيف أجاز صلاة الساهى بعد سجود السهو، وإسقاط الواجبات لا تجبر بسجود السهو عند العلماء، وهو تخليط منه، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم فى الحديث معنى نهيه عن دخول مواضع الخسف لغير الباكى وهو قوله‏:‏ ‏(‏لا يصيبكم مثل ما أصابهم‏)‏، وليس فى هذا ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول العذاب به، وتسويته بين الصلاة فى موضع مسجد الضرار بالصلاة فى موضع الخسف ليس فى هذا الحديث، وهو قياس فاسد منه، وهو لا يقول بالقياس، فقد تناقض‏.‏

باب الصَّلاةِ فِي الْبِيعَةِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنَّا لا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ، إِلا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا‏:‏ مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ- أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ- بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عائشة، وابْنَ عَبَّاسٍ‏:‏ أن نبى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال عند موته‏:‏ ‏(‏لَعْنَ اللَّه الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو هريرة بمثل معناه‏.‏

اختلف العلماء فى الصلاة فى البيع والكنائس فكره عمر، وابن عباس الصلاة فيها من أجل الصور، وروى عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ انضحوها بماء وسدر وصلوا، وهو قول مالك‏.‏

ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن مالك قال‏:‏ أكره الصلاة فى الكنائس لما يصيب فيها أهلها من لحم الخنازير والخمور، وقلة احتياطهم من النجس، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر، إلا أن يتيقن أنه لم يصبها نجس، وكره الصلاة فيها الحسن، وأجاز الصلاة فيها النخعى، والشعبى، وعطاء، وابن سيرين؛ ورواية عن الحسن وهو قول الأوزاعى، وصلى أبو موسى الأشعرى فى كنيسة يوحنا بالشام‏.‏

وقال المهلب‏:‏ هذا الباب غير معارض للباب الذى قبله باب‏:‏ ‏(‏من صلى وقُدَّامَهُ نار أو تنور‏)‏، وقول عمر، وابن عباس‏:‏ ‏(‏إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور‏)‏، فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعوه إليه، والاختيار أن لا يبتدئ فيها الصلاة ولا إلى شىء من معبودات الكفار؛ ألا ترى أن الرسول عينت له النار فى صلاة الخسوف ولم يبتدئ الصلاة إليها وتمت صلاته‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا

- فيه‏:‏ جابر قال نبى الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي، أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ‏)‏‏.‏

الحديث يدل أن هذه الأبواب المتقدمة المكروه الصلاة فيها ليس ذلك على التحريم والمنع؛ لأن الأرض كلها مباحة الصلاة فيها بكونها له مسجدًا، فدخل فى عمومها الكنائس والمقابر ومرابض الإبل وغيرها إذا كانت طاهرة، وهذا مما خص به نبينا، عليه السلام، أن أباح الله له جملة الأرض للصلاة، والاختيار ألا يبدأ بهذه المواضع المكروهة إلا عن ضرورة، فهو أخلص للصلاة وأنزه لها من الخواطر‏.‏

باب نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ عائشة‏:‏ أن وليدة كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ‏:‏ فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ‏:‏ فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ حُدَيَّاةٌ، وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا، فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ‏:‏ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ‏:‏ فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ‏:‏ فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ‏:‏ وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ، فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ‏:‏ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ- زَعَمْتُمْ- وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ‏:‏ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ‏:‏ فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ‏:‏ فَلا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلا قَالَتْ‏:‏ وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي قال المهلب‏:‏ فيه أنه من لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت أنه يباح له المبيت فى المسجد واصطناع الخيمة وشبهها للمسكن، امرأةً كانت أو رجلاً‏.‏

وفيه‏:‏ أن السنة الخروج من بلدة جرت فيها فتنة على الإنسان تشاؤمًا بمكان المحن، ودليل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏، فالواجب على كل من أدركته ذلة أو جرت عليه محنة أن يخرج إلى ما وسع الله عليه من الأرض، فإن له فى ذلك خيرهُ، وربما كان الذى جرى عليه من المحنة سببًا أراد الله به إخراجه من تلك البلدة لخير قدره له فى غيرها كما قدر لهذه السوداء، ألا ترى تمثلها بهذا المعنى فى بيت الشعر الذى أنشدته، فجعلت المحنة والذلة فى يوم الوشاح هما الذى أنجياها من الكفر؛ إذ كانا سببًا لذلك‏.‏

والوشاح عند العرب خيطان من لؤلؤ مخالف بينهما تتوشح به المرأة، والرجل يتوشح بثوبه تشبيهًا بالوشاح، وشاة موشحة إذا كانت ذات خطتين، والسير‏:‏ الشراك، والجمع‏:‏ سيور، من العين‏.‏

والحِفْشُ‏:‏ البيت الصغير، من العين أيضًا‏.‏

باب نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ

وَقَالَ أَنَسِ‏:‏ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ‏.‏

وقال عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ‏:‏ كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ، وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ، لا أَهْلَ لَهُ، فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ، عليه السلام‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ‏:‏ ‏(‏أن عليًا غاضب فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ، وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِها، فَجَاءَ الْمَسْجِدِ فرَقِد فيه، فطلبه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فجاءه وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، وقَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ‏:‏ قُمْ أَبَا تُرَابٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الباب من الفقه‏:‏ جواز سكنى الفقراء فى المسجد وجواز النوم فيه لغير الفقراء‏.‏

وقد اختلف العلماء فى ذلك، فممن رخص النوم فى المسجد ابنُ عمر، وقال‏:‏ كنا نبيت فيه ونقيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وعطاء، وابن سيرين مثله، وهو قول الشافعى، واختلف عن ابن عباس، فروى عنه أنه قال‏:‏ لا تتخذوا المسجد مرقدًا، وروى عنه أنه قال‏:‏ إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا أحب لمن له منزل أن يبيت فى المسجد، وسَهَّل فيه للضعيف ولمن لا منزل له، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال مالك‏:‏ وقد كان أضياف الرسول يبيتون فى المسجد، وكره النوم فى المسجد‏:‏ ابن مسعودُ، وطاوسُ، ومجاهدُ، وهو قول الأوزاعى‏.‏

وقول من أجاز النوم فيه للغرباء وغيرهم أولى لأحاديث هذا الباب، وقد سئل سعيد ابن المسيب، وسليمان بن يسار عن النوم فى المسجد، فقالا‏:‏ كيف تسألون عنها، وقد كان أهل الصفة ينامون فيه وهم قوم كان مسكنهم المسجد‏.‏

وذكر الطبرى عن الحسن قال‏:‏ رأيت عثمان بن عفان نائمًا فى المسجد ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين، قال‏:‏ وقد نام فى المسجد جماعة من السلف، قال الطبرى‏:‏ فغير محذور الانتفاع بالمساجد فى ما يحل‏:‏ كالأكل والشرب والجلوس وشبه النوم من الأعمال‏.‏

وقال الحربى‏:‏ الصفة فى مسجد الرسول موضع مظلل يأوى إليه المساكين‏.‏

وفى حديث سهل من الفقه‏:‏ الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنيته إذا كان ذلك لا يغضبه ولا يكرهه؛ بل يؤنسه من حرجه‏.‏

وفيه‏:‏ مداراة الصهر وتسلية أمره من عتابه‏.‏

وفيه‏:‏ جواز التكنية بغير الولد‏.‏

وفيه‏:‏ أن الملابس كلها يحاول بها ستر العورة وأنه لا ملبس لمن بدت عورته‏.‏

باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ

- فيه‏:‏ أبو قتادة، أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِس‏)‏‏.‏

اتفق جماعة أهل الفتوى على أن تأويل هذا الحديث محمول على الندب والإرشاد مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد، وهو طاهر، فى وقت تجوز فيه النافلة‏.‏

قال مالك‏:‏ ذلك حسن وليس بواجب‏.‏

وأوجب ذلك أهل الظاهر فرضًا على كل داخل فى وقت تجوز فيه الصلاة، وقال بعضهم‏:‏ ذلك واجب فى كل وقت؛ لأن فعل الخير لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وحجة الجماعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سُلَيْكًا حين جاء يوم الجمعة وهو يخطب أن يركع ركعتين، وأمر مرةً أخرى رجلاً رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يأمره بالركوع، حدثنا بًحْر بن نصر، حدثنا عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بسر قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل يتخطى رقاب الناس فى يوم الجمعة فقال له رسول الله‏:‏ ‏(‏اجلس فقد آذيت وآنيت‏)‏، فهذا يخالف حديث سليك، واستعمال الأحاديث هو على ما تأولها عليه جماعة الفقهاء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأما قول من قال من أهل الظاهر أن عليه أن يركع فى كل وقت دخل المسجد فهو خطأ؛ لنهيه عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وغير ذلك من الأوقات المنهى عنها، فمن دخل المسجد فى هذه الأوقات، فليس بداخل فى أمره بالركوع عند دخوله فى المسجد، وإنما يدخل فى أمره بذلك كل من لو كان فى المسجد قبل ذلك فأراد الصلاة، كان له ذلك، فأما من لو كان فى المسجد قبل ذلك لم يكن له أن يصلى، فليس بداخل فى ذلك‏.‏

وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمرون فى المسجد ولا يركعون، فروى ابن أبى شيبة عن عبد العزيز الدراوردى، عن زيد بن أسلم قال‏:‏ كان كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون‏.‏

قال زيد‏:‏ وقد رأيت ابن عمر يفعله، وذكر ذلك مالك عن زيد بن ثابت، وسالم بن عبد الله، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد، فيجلس فيه ولا يصلى وفعله الشعبى، وقال جابر بن زيد‏:‏ إذا دخلت مسجدًا فصلّ فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله فكأنك قد صليت‏.‏

باب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ أبو هريرة أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى هذا الباب أن الحدث فى المسجد خطيئة يُحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاؤهم المرجو بركته، ويدل على ذلك قول الرسول‏:‏ ‏(‏النخامة فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها‏)‏، فلما كان للنخامة كفارة قيل للمتنخم‏:‏ تمادى فى المسجد فى صلاتك وابق فيه مدعوًا لك، ولما لم يكن للحدث فى المسجد كفارة ترفع أذاه كما رفع الدفن أذى النخامة لم يتمادى الاستغفار له ولا الدعاء، وجب زوال الملائكة عنه لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة، والله أعلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطها الله عنه بغير تعب فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته لقوله‏:‏ ‏(‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏، وقد أخبر عليه السلام أنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وتأمين الملائكة إنما هو مرة واحدة عند تأمين الإمام ودعاؤهم لمن قعد فى مصلاه دائمًا أبدًا ما دام قاعدًا فيه، فهو أحرى بالإجابة، وقد شبه صلى الله عليه وسلم انتظاهر الصلاة بعد الصلاة بالرباط وأكد ذلك بتكراره مرتين بقوله‏:‏ ‏(‏فذلكم الرباط‏)‏، فعلى كل مؤمن عاقل سمع هذه الفضائل الشريفة أن يحرص على الأخذ بأوفر الحظ منها ولا تمر عنه صفحًا‏.‏

وقد اختلف السلف فى جلوس المُحدث فى المسجد فروى عن أبى الدرداء أنه خرج من المسجد فبال، ثم دخل وتحدث مع أصحابه ولم يمس ماءً، وعن على بن أبى طالب مثله، وروى ذلك عن عطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير‏.‏

وكره أن يتعمد الجلوس فى المسجد على غير وضوءٍ سعيدُ بن المسيب، والحسن البصرى وقالا‏:‏ يمر مارًا ولا يجلس فيه‏.‏

باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدرى‏:‏ كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ‏.‏

وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ‏:‏ أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النَّاسَ‏.‏

وقال أَنَس‏:‏ ٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لا يَعْمُرُونَهَا إِلا قَلِيلا‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَتُزَخْرِفُنَّهَا، كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى‏.‏

- فيه‏:‏ ابن عمر‏:‏ ‏(‏أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ جاءت الآثار عن الرسول، وعن السلف الصالح بكراهية تشييد المساجد وتزيينها، وروى حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال‏:‏ ‏(‏لما بنى المسجد قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف نبنيه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ليس رغبة عن أخى موسى، عريش كعريش موسى‏)‏، وروى سفيان عن أبى فزارة، عن يزيد بن الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما أمرت بتشييد المساجد‏)‏‏.‏

وقال أبى‏:‏ إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أمرنا أن نبنى المساجد حما والمدائن شرفًا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نهينا أن نصلى فى مسجد مشرف‏.‏

وهذه الآثار مع ما ذكر البخارى فى هذا الباب تدل أن السنة فى بنيان المساجد‏:‏ القصد، وترك الغلو فى تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها؛ ألا ترى أن عمر قال للذى أمره ببناء المسجد‏:‏ ‏(‏أَكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس‏)‏، ويمكن أن يفهم هذا عمر من رد الرسول الخميصة إلى أبى جهم حين نظر إلى أعلامها فى الصلاة، وقال‏:‏ ‏(‏أخاف أن تفتننى‏)‏‏.‏

وكان عمر قد فتح الله الدنيا فى أيامه ومكنه من المال، فلم يغير المسجد عن بنيانه الذى كان عليه فى عهد النبى، ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال فى زمانه أكثر، فلم يزد أن جعل فى مكان اللبن حجارة وقصَّة، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يُقصر هو وعمر عن البلوغ فى تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما عن الرسول بكراهة ذلك، وليقتدى بهما فى الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد فى معالى أمورها وإيثار البلغة منها‏.‏

روى برد أبو العلاء، عن القاسم بن عبد الرحمن قال‏:‏ ‏(‏جمعت الأنصار مالاً، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، ابن بهذا المسجد فقال‏:‏ ‏(‏إذًا يعجب ذلك المنافقين‏)‏، فدل هذا الحديث أن المؤمنين لا ينبغى أن يعجبهم ذلك‏.‏